
ليلة من شتاء فلسطين
في بداية فصل الشتاء تهب رياح شرقية يسميها الفلاح الفلسطيني "شراقي الصليب"، وهي علامة فاصلة بين الصيف والشتاء، وتأتي هذه الشراقي مع أواخر أيلول، فكما يقولون: "أيلول ذيله مبلول" ومع هطول أول الأمطار التي يسميها الفلاح "الموسم البدري" يبدأ العام الجديد، فعام الفلاح يبدأ بهطول المطر، المطر الذي يُروى به الزرع ليُحصد في الصيف، فكما يقولون "اللي ما بزرع في الشتوية بشحد في الصيف"، و"سيل الزيتون من سيل كانون".
وإذا ما تأخر الشتاء ولم تمطر فكانوا يقومون بالاستسقاء، كما يوجد العديد من الأغاني لطلب المطر والدعاء والتضرع إلى الله، ومنها "التشريب"، وفيها يقولون:
يا ربـي بَـلـه بـَلـه ... واحنـا تحـتـك بالـقـلة
يا رب بل المنـديل ... قبل ما نرحل ونشـيل
يا رب ما هو بطـر... بنطلب منك مطر
يا رب ما هو غيه .. بنـطلب منـك مية
ومن أغاني المطر أيضاً:
يا الله الغيث يا ربي… تنسقي زرعنا الغربي
يا الله الغيث يا رحمن… تنسقي زرعنا العطشان
يا الله الغيث يا دايم… تنسقي زرعنا النايم
يا الله الغيث يا ربي… خبزي قرقد في عبّي
وكان للأطفال دور أيضاً في عملية الاستسقاء فكانوا يغنون:
يا رب تشتي.. وروح عند ستي
تعملي فطيرة..قد الحصيرة
أكلها وأنام على رف الحمام
ومن الأمثال الشعبية التي كانوا يستخدمونها للتعبيرعن جودة الموسم وكثرة الأمطار:
( سنة الحمام افرش ونام ) دلالة على عدم جودة الموسم
( سنة الزرزور احرث في البور) دلالة على جودة الموسم
(سنة القطا نام بلا غطا) دلالة على اعتدال الجو وعدم قدوم الأمطار وبالتالي عدم جودة الموسم.
المربعانية:
أما عند اشتداد البرد في كانون الأول والثاني فيقولون: "في الكوانيين كِن في بيتك وكثر من حطبك وزيتك"، وهكذا كانوا يمضون أوقاتهم في ليالي الشتاء الباردة يجلسون في البيت في حلقة يتوسطهم الحطب المشتعل، ويُغني الأطفال مشتكين من شدة البرد عند قلة الحطب: "أح أح يا ربي قُصفة حَطب ما عندي". وبهذه البساطة كانت تتلخص أمانيهم ودعائهم بالدفء.
وفي نهاية كانون الأول تبدأ المربعانية، وتحديداً في الثالث والعشرين من الشهر، اليوم الذي يمتاز بكونه أطول ليالي السنة ونهاره أقصر نهار في السنة، وتنتهي المربعانية بعد هذا التاريخ بأربعين يوم ويقولون عنها "أصلك ومطر المربعانية"، فهي على حد قولهم: "يا بتشرّق يا بتغرّق"، أي إما تكون الشمس مُشرقة أو تنزل فيها أمطار مُغرقة، وهذا يظهر كما يعتقدون منذ أيامها الأولى، "يا بتربّع يا بتقبّع"، ويقولون عن بردها: "ما سكعة إلا سكعة المربعانية"، والسكعة هي البرد الشديد غير المحتمل.
السعودات:
وبانتهاء الأربعينية (المربعانية) تأتي الخمسينية فتبدأ في الأول من شباط وتنقسم الخمسينية إلى أربعة فترات أولها: سعد ذابح وهي فترة تتسم بالبرد الشديد فيقول المثل الشعبي (سعد ذابح ما بخلي كلب نابح)، وثانيها: سعد بلع وهو كناية عن أن الأرض في تلك الفترة تبتلع ما يسقط عليها من أمطارويقول المثل الشعبي (بسعد بلع السما بتمطر والأرض بتبلع)، وبعدها يبدأ سعد السعود حيث يبدأ النشاط الحيوي للنبات ويزداد الدفء وينتهي السكون الشتوي ويقول المثل الشعبي (في سعد السعود بدور المية في العود) وفي النهاية يأتي سعد الخبايا ويقال عنه (في سعد الخبايا بتطلع من الأرض الحيايا) وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة .
وأما عن قصة السعودات وسبب هذه التسمية فيُحكى أن شاباً يطلق عليه اسم "سعد" قرر السفر في فصل الشتاء وكانت الأجواء دافئة نسبياً، لكن والده نصحه بأن يحمل معه ما يدفئ به نفسه من البرد سواء من الفراء أو الحطب، ولكنه لم يستمع إلى نصيحة أبيه.
وبعد أن قطع سعد منتصف الطريق، تغير الجو فجأة وأصبح البرد قارساً فهطلت الأمطار والثلوج، ولم يكن سعد يملك سوى ناقته فذبحها ليحتمي بها من شدة البرد. لذا سميت هذه الفترة التي تمتد من 1-13 شباط/فبراير بـ "سعد الذابح".
وبعد أيام شَعَرَ سعد بالجوع وقد انتهى قوته فلم يكن أمامه إلا أن يأكل من لحم الناقة، وبذلك أُطلق على هذه الأيام "سعد ابلع"، وتمتد من 13 شباط -25 شباط. وبعد انتهاء العاصفة وإشراق الشمس فرح سعد واحتفل بنجاته وسميت الفترة "سعد السعود " الذي يبدأ من 26 شباط حتى 10 آذار.
وقام سعد بعد ذلك وخوفاً من أن تتكرر العاصفة مرة أخرى، بصناعة معطف له من وبر الناقة، كما أخذ من لحم الناقة المتبقي وخبئه، وسمي بذلك "سعد الخبايا" وهي الفترة الممتدة من 10 آذار-22 آذار وتصادف بداية الإعتدال الربيعي.
الأكلات الشتوية:
وفصل الشتاء في المورث الشعبي الفلسطيني ليس مُقتصراً على التقويم الزراعي ولا على البُعد المَحكي تراثياً من شاكلة الأمثال والأهازيج، بل نجد هذا الفصل زاخراً بكل أبعاد الحياة التراثية، كاللباس الشعبي الخاص بالشتاء، الذي يُصنع من فرو الحيوانات وصوفها، وكذلك المأكولات المُرتبطة بهذا الفصل، إذ تمثل سلة غذائية مُتكاملة منها الزبيب والدّبس والعدس والعوامة والمهلبية والقُطين، "اللي معه قطين بوكل في أديه (يديْه) الثنتين".
وأشهر أكلات الشتاء وأيام البرد أو الثلج المفتول (البحبثون)، حتى قالوا عن مثل أيام الثلج والمطر الشديد، "اليوم يوم مفتول".
تحضيرات ما قبل فصل الشتاء:
وفي الخليل كانت مواسم صناعة الدبس من أهم المواسم التراثية التي يبدأون فيها فصل الشتاء فكانوا مع انتهاء فصل الصيف وبداية فصل الخريف يقومون بحفلة تراثية تعرف بـ"صناعة الدبس"، تسودها أجواء فرح وتعاون يشرف عليها الأجداد ويشارك فيها الأبناء والأحفاد وتعود بهم إلى زمن يأبى عليهم نسيانه وفق خطوات تستمر لعدة أيام.
كما من المهم قبل بداية الشتاء تحضير ما يعرف بالجفت، وهو ما يتـبـقى من ثـمار الزيـتون بعـد عصـر الزيـت منها. والجـفـت يتـكون من مسـحـوق ثمار الزيتون وقشـرتـها ونواتها الصـلبة، وهذا الخليط السحري كان مصدر الطاقة للبيوت الفلسطينية فهو سريع الاشتعال، ويدوم اشتعاله لفترة طويلة، فكانت من أهم المصادر للتدفئة في الشتاء، كما كان يُستعمل للخبز والطبخ، وخاصة في تزبيل الطابون.
وفي الأجواء الباردة كانوا يغنون:
يا شمس اطلعيلي… تني أنشر غسيلي
غسيلي بالعفارة….. نطت عليه الفارة
والفارة هذي هذي.. والليلة نامت عندي